2009/09/06

دروس عمانية للعرب!


أوسلو في 2 ابريل 2004

ماذا لو أن مؤتمر القمة العربي الذي فشل قادة الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة في أن يعقدوه لعدة ساعات على أرض تونس الخضراء قد دعت إليه سلطنة عمان لتستضيفه مسقط الدافئة، ويكون المضيف السلطان قابوس بن سعيد؟
أغلب الظن أن العاهل العماني لم يكن ليعلن تأجيل أو الغاء أو فشل المؤتمر دون أن يبذل قصارى الجهد لتجميع كلمة العرب.
السبب الوحيد الذي نراه دافعا لفشل العرب في كلمة سواء تجمعهم ليومين فقط يتخللهما غداءان وعشاء وعدة قبلات وأحضان وبيان ختامي هزيل تشم منه رائحة الخوف من البيت الأبيض، والحذر من غضب تل أبيب، هو الخشية من أن تفقد كل دولة عربية دورها في منظومة عجيبة من عقد منفرط يدعي كل واحد أنه قادر على أن يلفه حول العنق الجميل لجامعة الدول العربية.
سلطنة عمان لا تبحث عن دور، ولا تلهث وراء أضواء، ولا تلعب دورا مخالفا لطبيعة النهضة والتطور والصمت الذي يميز هذه التجربة الرائعة في خليجنا العربي.
لو كان الأمر بيد السلطان قابوس لطلب من أبناء شعبه أن يحدد كل منهم مجموع الكلمات التي يستخدمها في يومه لئلا تزيد الأقوال على الأفعال فتفقد النهضة بريقها، وثورة التجديد أصالتها.
نطرح مرة أخرى السؤال الذي ضمناه أحد مقالاتنا السابقة: لماذا لم تلد سلطنة عمان إرهابيين يروعون الناس، ويفرضون أحكامهم، ويطاردون مخالفيهم، ويحللون دماء الآخرين؟


قد يقول قائل إنها العدالة الاجتماعية، ويرد آخرٌ الأمرَ لانشغال الدولة كلها بثورة السلطان قابوس التي بدأت عام سبعين ولم تنته بعد.
أزعم أن القيادة هي التي وأدت الارهاب والطائفية والعصبية والمزايدة الدينية قبل أن تطل برأسها على المجتمع العماني الآمن.
لهذا لم يخرج صوت واحد نشاز يرفض أو يعترض على تعيين امرأة وزيرة للتعليم العالي، ليس فقط اتقاء غضب السلطان، ولكن لأن العاهل العماني تمكن من صناعة العقل الجماعي الذي قاد كل الدول المتقدمة والصناعية إلى ما هي عليه.
والعقل الجماعي في سلطنة عمان ينفر من الطائفية، ولن تجد في طول البلاد وعرضها ندوة تفرق بين السنة والشيعة، أو تشرح باستعلاء مميزات الاباضية، أو تحث الآخرين على اتباع مذهب معين، أو تطالب المسلمين في اختيار مساجدهم للوقوف أمام رب العزة.
ولم يرتفع صوت واحد معارضا اختيار خمس نساء في أعلى الأجهزة القضائية.
ولنكن أكثر صراحة في طرح سؤال لا يحب أصدقاء سلطنة عمان الاقتراب منه: هل الخوف من السلطان قابوس هو الذي يجمع العمانيين على الطاعة والتلبية الفورية
لتوجيهاته وأوامره؟
هنا أيضا تتجلى عبقرية الحكم للسلطان قابوس بن سعيد، فهناك نسبة محددة سلفا من مشاعر الرهبة والخوف والاحترام والمحبة والتقدير والولاء والثقة الشديدة بحيث تتجمع كلها لتكوين نسيج قوي ومتين يقوم العقل الجماعي بترجمته.
ولكن عندما يتعلق الأمر بمشاعر وطنية جارفة أو قومية فإن قدرة السلطان قابوس على تركها تخرج وتتفجر وتنفس عن نفسها تتعارض تماما مع القائلين بأن الاستبداد هو الذي يصنع العقل الجماعي.
وكما حدث في الكويت عندما التف أبناء الشعب كلهم حول قيادتهم
العراقي، فإننا نؤكد أنه لا قدر الله لو أن شيئا اصاب سلطنة عمان فإن العمانيين كلهم، بدون استثناء، سيلتفون حول السلطان قابوس مع تحررهم الكامل من مشاعر الخوف والرهبة لتبقى المحبة والقناعة الكاملة بأن هذا الرجل هو الأكثر اخلاصا وحنكة وقدرة على قيادة البلاد.
سلطنة عمان تحصد الآن نتائج أكثر من ثلاثة عقود من العمل الصامت والمتواصل الذي بدأه الشاب الأسمر عام سبعين وهو يقاتل مقاومة شرسة، ويحلم بنهضة لبلد واسع الرقعة الجغرافية، قليل الموارد، قريب من مناطق ساخنة بحروب وقلاقل.
لم يعد غريبا أن تقرأ عن جائزة دولية للبيئة والحفاظ على المحميات الطبيعية، والاهتمام بالعلاج، ونظافة المستشفيات، وتطوير سبل التعليم، وحقوق المرأة، وسد كل منافذ قد يلجأ إليها الفساد كما هو الحال في عشرات من دول العالم الثالث، خاصة عالمنا العربي.
في سلطنة عمان تتابع مؤتمرا عن إعداد معلم المستقبل، والفلسفة التربوية الواضحة، وتطوير سياسة ترقية المهنة والترقي من خلالها، وإعادة إعداد معلمي المعلمين على المستويات الثقافية واللغوية والتخصصية والتربوية.
وفي عمان لا يتوقف الزمن، ولا يستريح، ولا يضيع العمانيون وقتهم في الترويج لعالم الاحصاءات الكاذبة كما يحدث في وطننا العربي البائس، فهناك حركة ترجمة واسعة، ومعايير للجودة في كل المهن والوظائف، وندوات تعليمية في كل المجالات تقريبا.
وفي عمان هناك مشروع المدارس الصديقة للصحة من خلال تشكيل المواطن الواعي صحيا في نفس الوقت الذي يتلقى تعليمه فيسير الوعي الصحي بجانب توسعة القدرات الفكرية.
وفي عمان تفتخر المرأة بأنها لا تعاني التمييز أو تتعرض لاتهامات من رجال الفكر والأدب والدين، وعندما صدر المرسوم السلطاني رقم
2004/28 بتعيين الدكتورة راوية بنت سعود بن أحمد البوسعيدية وزيرة للتعليم العالي بدا الأمر كأنه
عيد جديد لنصف الأمة، وتكريم للأم والأخت والزوجة والابنة والزميلة.
سلطنة عمان تحاول أن تنافس مئات الأماكن السياحية في جذب السياح، والتعريف بحضارتها وشعبها وأرضها وجمالها الطبيعي، وللحقيقة فإن وكيل وزارة التجارة والصناعة لشؤون السياحة محسن البلوشي أصبح خلية نحل تتحرك في كل الاتجاهات والمعارض ولكن لن تحقق السياحة العمانية هدفها بدون أمانة النقل لدى زوارها وأصدقائها من المثقفين والاعلاميين وأن يقوموا جميعا بدور تقديم عمان للسياحة العربية والأوروبية.
وفي عمان لن تتعرض لاستغلال أو سرقة أو نهب أو تكالب متسولي السياحة على جيبك، فهي حالة نادرة من الطبيعة والجمال والخجل البكر للمواطن العماني وريشة القيادة التي صنعت لوحة فنية لمشهد يفتخر به كل عربي قبل العمانيين أنفسهم.
وفي عمان تتقدم وزارة الاعلام لتقوم بدور حساس للغاية للتعريف بالنهضة والسياحة والثقافة والتطور والتعليم، في نفس الوقت الذي لا تتحول الوزارة إلى كتاب دعاية حكومي لا يقرأه أحد ولا يطلع عليه إلا أصحابه.
وبفضل التناغم والانسجام في القيادات الاعلامية تمكنت الوزارة من صناعة أصدقاء عمان، وتعرفت عن طريقها أعداد هائلة من المثقفين والاعلاميين والمسؤولين والكتاب وأصحاب المهن الأخرى، ليتولوا بعد ذلك مهمة نقل الصورة بأمانة، كل وفق امكاناته وكفاءاته وقدرته واخلاصه.
لقد آن الوقت الذي يصبح فيه خريف صلالة عيدا لكل العرب، ومزارا
لمئات الالاف من العائلات العربية، ودعوة مفتوحة لكل باحث عن قطعة أرض عربية يفتخر بها، ويشعر باكتمال مقومات السياحة العائلية والفردية وعمادها الأمن والأمان.
ومع كل ما حققته نهضة السلطنة فإن العمانيين يطرقون خجلا، ويظنون أنهم في أول الطريق، ويحلمون مع زعيمهم بمستقبل أكثر اشراقا وخيرا، وكلما تحقق جزء من هذا الحلم، انفجرت طاقات ابداعية ثورية في الحاكم والرعية على حد سواء، ليبدأ تجديد الحلم.
المستقبل لسلطنة عمان، ولكن للأسف الشديد فإن الفكر الفوقي المتخلف والمغيب والبعيد في مشرقنا العربي لا يستطيع أن يتصور أن بلدا خليجيا كان مضرب الأمثال في التأخر والبدائية منذ أقل من خمسة وثلاثين عاما يصبح قبلة العرب، ونموذجا يحتذى به، وملجأ آمنا، ومكانا خصبا لانصهار المذاهب والطوائف والرؤى داخل بوتقة العمل الوطني.
سلطنة عمان حالة خاصة تستحق أن نقف أمامها متأملين مشهدا لم تعهده العين العربية، فالعمانيون فعلا يقومون بصناعة زمنهم الجميل في عالم مليء بالقبح والانهيار والفساد والتعصب والارهاب والأكاذيب والأباطيل.
أما سؤالنا الذي بدأنا به عن قدرة السلطان قابوس على قيادة التجمع العربي، ووصف العلاج للجامعة المريضة، وأخذ زمام المبادرة لتعليم العرب فضيلة الصمت، فنحن واثقون في قدرة العاهل العماني على قيادة أمة وليس فقط شعبه، وقد آن الوقت أن نتعلم من العمانيين.

ليست هناك تعليقات: