2012/10/22

لحظــات فرح قصــيرة في عـالم عربي حــزين

عشر سنوات مرت على هذا المقال وأعيد نشره اليوم للتأكيد على أن رؤيتي للمسيرة العُمانية لم يتغير قط، وأن تمنياتي لعشر سنوات قادمات تضاعفت انطلاقا من نهج اختطته الدولة واستجاب الشعب له.
عندما تضيق بك الأرض العربية بما رحبت، ويزداد الشوق للحرية والجمال والخير، فلا مناص ولا مهرب إلا بأن تولي وجهك شطر سلطنة عمان.
وعندما يضحي الشعور بالأمان غير موثوق به، والبحث عن الزمن الجميل هما شاغلا، وعطشا لا ترويه مدن وقرى ونجوع الوطن الكبير الممتد من الماء إلى الماء، فليس أمامك إلا أن تطهر النفس وتريح القلب بين ربوع سلطنة عمان، من صلالتها إلى مسقطها، أو تقضي يوما أو بعض يوم مستندا إلى جدار قلعة في نزوى تستدعي من التاريخ صفحات ناصعة البياض، وتلقي وراء ظهرك في بحر عمان أو خليج هرمز بالصفحات الأخرى التي سودتها المعارك والحروب والطائفية في تاريخنا العربي والإسلامي.   وعندما يتملكك الغضب واليأس من المشروعات الفاشلة في عالمنا العربي، ويرهقك البحث عن مكان بكر يسكنه قوم لم يتعرفوا بعد على الجانب القبيح من عالم الاستغلال والفساد والرشوة والمحسوبية، فعليك بالرحيل فورا إلى سلطنة عمان.
بقدر ما أحب سلطنة عمان، أخشى عليها وعلى شعبها من التعرف على شطر كبير من عالمنا، فالسلوك اليومي لمواطني هذا البلد يغري ذوي النوايا السيئة بتعريف العمانيين على عالم تديره قلوب قاسية ونفوس غليظة وعقول مقامرة.
يتحكم العمانيون في سلوكياتهم اليومية من منطلق طابع خيري جبلت به نفوسهم، ولعل هذا يرجع أيضا إلى أن البداية في الاحتكاك بمتطلبات العصر بدأت تقريبا من نقطة الصفر،بل قبله بقليل عندما ضم السلطان قابوس بن سعيد ثوار ظفار إلى الوطن الأم مشاركين بفاعلية، وناقلين أحلامهم من جبالهم العتيدة إلى حلم موحد في بلد ينهض بالجميع على قدم المساواة.
تلك هي عبقرية الحكم في فكر السلطان قابوس بن سعيد، الذي تمكن من تحقيق أحد أهم أشكال الانصهار في الوطن عندما ضم أحلام مواطنيه إلى حلمه وجعل منها منظومة تبدو غريبة الشكل في عالم لا يفهم غير السلطة المستبدة أو الديموقراطية المتساهلة والمنفصلة عن مشاعر وأحاسيس وأحلام المواطن.
لا تؤثر زلازل وحروب وقضايا وهزات العالم المحيط بسلطنة عمان على مسيرة النهضة، فقد تقوم حرب بين إيران والعراق وتأكل الأخضر واليابس، أو تهدد إيران جيرانها بعد استيلائها على الجزر الإماراتية، أو ترهق نزاعات الحدود في الخليج الأنظمة والشعوب، ولكن سلطنة عمان حالة من الاسترخاء الأمني الذي يعرف القائمون عليه أن طريق النهضة الحقيقية يبدأ من الداخل.إن هناك مجموعة من القيم التي تضبط إيقاع الحياة في سلطنة عمان، وتبدو متحكمة إلى حد بعيد بسلوكيات العمانيين.
إن تشكيل سلوك الفرد إلى الأفضل أو الاحتفاظ بالسلوك الفطري لجماعة من البشر يصبح عملية معقدة إن لم تتوافق وتتناغم معها مشاعر الخير والحرية المرتبطة أصلا بمجتمع يستطيع أن يستنهض من التراث والتاريخ والعادات والتقاليد وروح الدين أفضل ما فيه. لهذا يتعجب المراقبون لتطور سلطنة عمان من القدرة الفائقة على تجنب ألغام العنف والطائفية والاستعلائية التي تخطت كل الموانع الدينية والقومية والوطنية في أقطار عربية كثيرة.
لماذا لم تجد حركات التطرف الديني مواقع لها على الساحة العمانية؟
السبب الأول هو أن مداعبة خيالات وأحلام أفراد الشعب من البسطاء ليست عملية هينة، فهي تحتاج لانتشار الرشوة والمحسوبية والفساد وعدم الثقة التامة في نظام الحكم أو في علاقات المواطن بالسلطة.
والسبب الثاني هو الشعور بالكبت وعدم المشاركة في السلطة والاحتجاج على قرارات تشريعية أو تنفيذية والتفاوت الطبقي، وتلك الأمور تكاد تكون معدومة تماما في سلطنة عمان، وقد أثبتت أحداث فلسطين الأخيرة أن المواطن العماني يستطيع أن يتظاهر ويحتج وينتقد، بل إن السلطان قابوس اعتبر الدعم العماني من الشعب إلى فلسطين علاقة مباشرة وليست سلطوية.
أما المشاركة في السلطة، فيعرف الجميع أن جلسات أعضاء مجلس الشورى مع الوزراء والتي يقوم أعضاء فيها بسلخ جلد الوزير والاحتفاظ في الوقت عينه بأدب جم وقدرة على ضبط الانفعالات والإبقاء على كل خطوط المودة والعلاقات المواطنية الصحية، هي ظاهرة عمانية بحتة تسير جنبا إلى جنب مع مشاركة رجل الشارع في الجولات السلطانية التي يواجه فيها السلطان قابوس بن سعيد المواطنين في القرى والجبال والمدن الصغيرة والمخيمات وفي قلب الصحراء أو أطرافها، ويستمع إليهم بشغف شديد، وليست هناك رقابة مسبقة أو تعليمات بالاختصار، باعتبار المواطن في حضرة السلطان، وليس هناك مستشار يتسلم الشكوى قبل أن تصل إلى يد صاحب الأمر كما يحدث في بلاد عربية أخرى.
إن الاستخدام المتعقل والحكيم للموارد جعل العمانيين يضاعفون من إنتاجهم، فليس هناك بذخ في إهدار ثروات البلد، ولا يوجد استفزاز من جانب طبقة تجاه أخري،والعمانيون ليسوا معنيين بتسابق  جامعي الثروات في معظم الدول العربية الأخرى بحكم عدم ظهور هذه الطبقة بعد في المجتمع العماني، والتي نأمل
 أن لا تظهر في المستقبل، فهي القادرة على قلب كل المفاهيم وإحداث ثغرات وتأثيرات سلبية في البلاد.إن سر نجاح التجربة العمانية خلال أكثر من ثلاثين عاما يكمن في اهتمام السلطان قابوس بن سعيد بالقضايا الحياتية الصغيرة جدا والتي أحسب أن أكثر زعماء العالم الثالث لا يعيرونها أدنى اهتمام.
لذا تكثر في سلطنة عمان الندوات التوعوية والإرشادات والنصائح والتي لا يمكن أن تخطر على بال سلطة تنفيذية في الشطر الأكبر لوطننا العربي الكبير...
فالسلطان قابوس بنفسه يعطي توجيهات حاسمة وملزمة في أصغر قضايا وهموم الوطن والتي يظنها غيره أنها ليست من اختصاصات زعيم الدولة، من الاهتمام بإرشاد المواطن إلى طرق اكتشاف وفحص المواد الحافظة للأغذية والمعلبات، والتعرف بالمضافات الغذائية، وكيفية حفظ المواد الغذائية، ومرورا بتشكيل الدوائر
القضائية في طول البلاد وعرضها تسهيلا لإقامة قواعد العدل والأحكام، ومتابعة خاصة من السلطان لإنتاجية المحاصيل الزراعية وأشجار الفواكه، وتوجيهاته بمضاعفة برامج التوعية الصحية التي لا تترك صغيرة أو كبيرة في أمور الصحة إلا أقامت عنها ندوات حتى السلوكيات الخاصة للوقاية من الأمراض وتحديث المعلومات الصحية يجدها المواطن العماني كشأن من شئون السلطة وليست فقط مبادرات فردية قد يجدها على استحياء في العاصمة فقط.
حتى الاهتمام الحكومي بجودة الأسماك، والتمتع بسمعة عالية في التصدير، وتطبيق التقنيات والدراسات في التحليل الكيمائي والميكروبي وتأثير العوامل البيئية المائية والمناخية والبشرية المحيطة لتخلص السلطنة إلى التحديد النهائي لجودة المنتج الاستهلاكي. في هذا المناخ الأخلاقي الوطني الذي يسعى إلى الأفضل لا يمكن إلا أن تكون عمان من أوائل دول المنطقة في شيئين: تطبيق قوانين وأنظمة الملكية الفكرية، وإبهار منظمة الصحة العالمية بالاهتمام الشديد الذي توليه سلطنة عمان للصحة بكل جوانبها.
هذا هو المدخل الذي أشرنا إليه من قبل عدة مرات والذي يجعلنا نحترم احتراما شديدا قيادة السلطان قابوس لشعبه من قلب الوطن وليس من الخارج، فالسياسة الداخلية هي التي تجبر العالم كله على احترام البلد والقيادة ونظام الحكم بديلا عن تغييب الشعب من خلال عرض مظاهر الثناء الدولي على عبقرية الحكم كما يحدث في عشرات من البلاد العربية والإسلامية والإفريقية. الشمس العربية لا تشرق من المغرب أو من المشرق، لكن الكثيرين شاهدوها تشرق من سلطنة عمان وهي تبتسم!
طائر الشمال مايو/يونيو 2002

ليست هناك تعليقات: