
أوسلو في 15 يناير 2005
قبل أن يبحث القاريء العربي لأي مطبوعة عن فحوى المقال أو الموضوع تشير سبّابتُه فورا إلى الجهة التي تقف خلف هذا الطرح!
نشرتُ موضوعاً في طائر الشمال في نهاية عام 1986 عن سلطنة عمان مشيدا فيه بعبقرية السلطان قابوس بن سعيد، فجاءني في مقر المكتبة العالمية في أوسلو ( وهي المركز الاعلامي الذي استمر لمدة أربع سنوات فقط) صديق عربي ماركسي لينيني ( أصبح إسلاميا فيما بعد) وأتهمني باسم الشفافية الشيوعية (!) أنني مدعوم ماديا من سلطنة عمان، وكان ذلك قبل زيارتي الأولى لمسقط بعشر سنوات!
الكتابة عملية انتحارية في شكوك الآخرين، والاقتراب ثناء أو مديحا من دولة عربية خليجية يعني مئة علامة استفهام، فالقاريء العربي يفهم أن مقابل كلمات طيبة عن تجربة خليجية برميل نفط يتم شحنه فورا لمقر المطبوعة.
في الحقيقة أنني لم أُخْفِ تعاطفي الشديد مع التجربة العُمانية بعد زيارتي الأولى عام 1996، ثم تابعت بنهم ودفء ومحبة واعجاب اصرار العمانيين وقائدهم على تعويض سنوات ما قبل السبعينيات عندما كانت عمان على هامش التاريخ، تترعرع فيها الأمية، وتخاصم الدولة التعليم، وتكاد تسقط من ذاكرة العالم.
جاء قابوس بن سعيد، الشاب الأسمر المفعم حيوية وأحلاما في مستقبل لبلد لم يَسْلَم من أطماع معظم جيرانه من الرأسماليين في إيران إلى الماركسيين في اليمن، وقام الرجل بأول عمل عبقري في قيادته عندما جعل ثوار ظفار جزءا من حركة النهضة ومشاركين فيها .
خمسة وثلاثون عاما هي عمر التجربة القابوسية لتحقيق أطهر الأحلام وأجملها، وانتقال شعب من الفقر والتخلف والمرض والهامشية والأمية إلى حياة حرة وكريمة ومصالحة مع العصر وعقد رباط مقدس مع السلام والأمن.لم يكن أمامي للتعبير عن محبتي وتقديري للعمانيين غير الكتابة المنتظمة عن التطور الحاصل في تجربتهم، وأهديت طواعية الصفحة الأخيرة من طائر الشمال للجمال والخير وسحر الطبيعة في صور جميلة لسلطنة عمان لكي يستريح القاريء بعد قراءة مقالات ممنوع تداولها في أكثر البلاد العربية لحدّتها وقسوة نقدها وصراحتها ومصادمتها مع قوى الظلم والاستبداد.
وظن البعض أن هناك تشابكا بين النقيضين، وتعاطفا عُمانيا مع مقالاتنا الحادة ومنها وقائع محاكمات زعماء عرب، والحديث عن حقوق الإنسان، وكشف وفضح اهدار أموال شعوبنا العربية في تجارب فاشلة انتهت إلى فساد وتأخر ونهب أموال وسجون ومعتقلات ومواصلة انتهاك كرامة المواطن.
والحقيقة غير ذلك بالمَرّة ...
فالعُمانيون في حَرَج شديد، وشبهة دعمهم لمقالاتنا لاثارة الشغب لأنظمة عربية أخرى يسيل لها لُعاب الوشاة وكاتبو التقارير وبعض رؤساء البعثات الدبلوماسية الذين لا يختلفون عن المخبرين والمرشدين.
وأنا في حيرة شديدة، فالواجب والأمانة يقتضيان مني عدم التوقف عن التعريف باشراقة التجربة العمانية، والحمد لله فقد آتت مقالاتنا أُكُلَها ضعفين وتعرّف الكثيرون من جديد على النهضة المباركة التي يقودها السلطان قابوس بن سعيد بدعم كامل من الشعب العماني.
والواجب والأمانة يقتضيان أيضا أن تحافظ طائر الشمال على خطها الذي انتهجته منذ أكثر من عشرين عاما أوجعنا فيها أنظمة الاستبداد، وكتبنا في أكثر الموضوعات حساسية واخترقنا خطوطا حمراء جعلت مطبوعتنا على رأس خصوم الطواغيت، وحرمتني من الاستمتاع بزيارة أكثر من ثلثي الدول العربية خشية الوقوع في براثن أجهزة الأمن التي يؤمن القائمون عليها أنهم في حماية ولحماية سيد القصر.
سلطنة عمان دولة تبحث عن السلام، وتتجنب التصادم، وتعطي أولوية للداخل، وتفوّت الفرصة على الآخرين الذين تستثيرهم التجربة العمانية ويبحثون عن متاعب للسلطنة.
والسلطان قابوس بن سعيد استطاع أن يُجَنّب بلده كل المتاعب والمشاكل مع الآخرين خشية أن تتباطيء حركة التنمية، وأن يتم خلق
يد في كتاباتنا، بل كنت أرى في العيون الطيبة الكريمة المغلفة بحياء العذراء عتابا ضمنيا يعبر عن قلق وحيرة تسبقان الحرج الشديد.
والحقيقة أن مقالاتنا عن الرئيس حسني مبارك التي بدأت عام 1985 بمقال ( أنت متهم لأنك مصري) وكان آخرها ( حوار بين الرئيسين حسني مبارك وجمال مبارك ) وبينهما تسعة عشر عاما أوقعتنا في حيرة، فسلطنة عمان التي تمتد علاقتنا بها لنصف زمن تلك المقالات غير مسؤولة بالمرة، من قريب أو من بعيد، عن غضب ومشاعر وأوجاع وآلام وأحلام مواطن يحفر في أعماقه ليبحث عن أسباب تدهور وفساد وتأخر الحالة المصرية حبا وعشقا، ومن ليس له خير في بلده لا يمكن أن يكون صادقا مع الآخرين. والآن ومع اصرار الرئيس على أنه الوحيد من بين سبعين مليونا الصالح لحكم مصر الصابرة على الرغم من الفشل والصفر والتأخر في كل المجالات تقريبا منذ أربعة وعشرين عاما، فإن القلم يصرخ طالبا الاستمرار في الكتابة لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ..
ومع قرب احتفال سلطنة عمان بمرور خمسة وثلاثين عاما على النهضة المباركة، في الوقت الذي بدأت تدلف خلسة إلى البلد الأكثر أمنا وأمانا بعض الأفكار المتشددة والقادمة من الحدود، فإن الوقوف مع سلطنة عمان واجب أخلاقي قبل أن يكون إعلاميا، ليس فقط لنشد الأزر أو ندعم أو نتعاطف ولكن أيضا لننصح وننبه أحبابا واصدقاء وقيادة حكيمة لئلا تقع في خطأ الاعتقالات والانتهاكات وتخسر ما كسبته في خمسة وثلاثين عاما. العمانيون ليسوا مسؤولين عن أي انتقاد نوجهه لأنظمة عربية أخرى، ونحن بدورنا لن نتوقف عن دعم هذه النهضة المباركة، في المجلة وعلى الانترنيت وعلى الساحة النرويجية ولن اعتذر للعمانيين عن محبتي لهم، لكنه اعتذار عما سببته لهم من حرج كانوا في غنى عنه، ومن الحب ما قتل!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق