2009/09/04

سلطنة عمان .. صناعة الزمن الجميل




في زيارتي الأخيرة للعاصمة البريطانية قضيت، كعادتي دائما، ساعات طويلة في المكتبات العتيقة أبحث عن كنوز، وأشم عبق التاريخ، وأتصفح جزءا من نتاج الفكر الإنساني منذ أربعين عاما وأنا أعتبر نشوتي وسعادتي الغامرة وهويتي الحقيقية، داخل المكتبات، وهي أول ما تقع عليه عيناي لدى زيارتي لأي مدينة، فاشتريت كتبا من دمشق والرباط والكويت ومسقط والرياض وبغداد والدوحة ولندن ونيويورك وفرانكفورت، ولكن تظل كتب القاهرة والإسكندرية وبورسعيد هي الأقرب لي وكنت أعمل في إحدى مكتبات جنيف بسويسرا، وأسست مكتبة عالمية في أوسلو عام 83 وأغلقتها عام87
في سرداب مكتبة عتيقة بالقرب من البيكاديللي وقع في يدي كتاب " مسقط وعمان.. نهاية حقبة" وقد صدر عام 1974 أي بعد تولي السلطان قابوس بن سعيد الحكم بأربع سنوات يصف المؤلف الحياة في السلطنة بتفاصيل دقيقة، وقد عقد فصلا خاصا تحت عنوان " سعيد بن تيمور" يعتبره مدخلا لمعرفة سلطنة عمان قبل الولوج إلى العصر الجديد..عصر السلطان قابوس بن سعيد وكان جد السلطان الحالي تيمور بن فيصل بن تركي بن سعيد البوسعيدي قد هجر الحكم والحياة السياسية وغادر إلى مدينة بومباي الهندية ليقضي فيها ما بقى له من عمر عندما تولى السلطان سعيد بن تيمور الحكم عام1932 قرر عزل البلاد عن العالم الخارجي كله، فكرا وعلما ودينا وحضارة، ونامت عمان نوم أهل الكهف وهي تغرق في فقر وجهل وأمية ومرض واستبداد، ولو استيقظ آنئذ أحد من القرون الأولى لظن أنه لم يمكث في الكهف إلا يوما أو بعض يوم
ويقول المؤلف بأن من لم يقم بزيارة عمان قبل تولي السلطان قابوس الحكم، لا يستطيع مهما أوتي من خيال خصب أن يتصور مشهدا واحدا من مشاهد هذه الدولة قبل الحقبة القابوسية
لم تكن هناك دولة بالمفهوم المعاصر، إنما كانت هناك صورة من صور البؤس مجسدة في شبه دولة معزولة عن العالم، ولا يأتي على ذكرها رحالة أو مفكر أو مؤرخ أو سياسي
كل الزعماء في عالمنا العربي تؤكد وسائل إعلامهم أنهم صنعوا معجزات، ويعدد المنافقون حولهم الإنجازات العملاقة، وأكثرها في الواقع مشروعات فاشلة، فضلا عن الفساد والرشوة والمحسوبية والجرائم والتهريب، والمسافة الواسعة التي تفصل الحاكم عن الرعية.
سلطنة عمان حالة خاصة صنعها السلطان قابوس بن سعيد، ورسم بريشته مشهدا لمستقبل الدولة ثم جعل يضيف في كل يوم وكل ساعة خطوطا جميلة وألوانا مبهرة ولمسات فنية، فلا يدري المرء بعدها إن كانت سلطنة عمان تنتمي إلى عصرنا الحديث، أم هي واقعة في الزمن الجميل الذي صنعته ريشة الفنان، أعني سياسة السلطان قابوس بن سعيد!
ربما كان السبب في المقالات الكثيرة التي نشرتها عن سلطنة عمان هو حنيني الجارف إلى زمن لم يعد موجودا البتة، فأينما وليت وجهك ستجد سجونا ومعتقلات وفسادا وإهمالا من الحاكم، وشللية من مستشاري السوء وتدهورا وانحدارا على كافة المستويات الاقتصادية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية
سيقول قائل بأن السلطان قابوس كان هو أيضا محظوظا في حكم بلد بكر وشعب طيب ودود لم تلوثه الحضارة الحديثة، ولا تعرف جرائم العنف طريقها إلى أفراده.
انبهاري بالتجربة العمانية يرجع في الأصل إلى إيماني العميق بأهمية وضع الأسس الثابتة في مركزية الحكم قبل البدء في أي خطوات أخرىوهنا سيختلط الأمر على الكثيرين ويظنون أنها دعوة إلى الاستبداد.
معاذ الله أن ندعم بقلمنا أي صورة من صور الاستبداد، لكننا ننبه إلى واحدة من أهم تجارب العرب في القرون الأخيرة، أي الإمساك بكل حالة صغيرة والتعامل معها على حدة، ثم إعادتها إلى موقعها الصحيح في المجتمع، فهذه هي مهمة الحاكم الذي كنت أبحث عنه طويلا في الحقيقة فإنني لا أكترث كثيرا لعلاقات زعيم عربي مع العالم ومع الغرب وزياراته واستقبالاته ومباحثاته، فتلك كلها يستطيع أن يقوم بها أي مسؤول بروتوكولي، لكن المحك الرئيس هو التعامل مع كل صغيرة وكبيرة في قضايا وهموم المجتمع.
إنها مركزية القرار المحلي القادم أصلا من احتياجات الشعب، أي أنه نتيجة طبيعية لتبلور الصورة التي يأمل فيها أفراد الشعب، ويقوم بتنقيتها وتحسينها ذوو الخبرة والعلماء والمتخصصون، ويلتقطها السلطان قابوس بن سعيد ليعيدها إلى المسؤولين في صورة لوائح وقوانين وتوجيهات سامية وأوامر فمثلا عملية المسح السياحي، لمعرفة احتياجات السلطنة من خلال إشراك السائح نفسه في عينة كبيرة نسبيا هي الأولى من نوعها في العالم العربي، وحماية المستهلك حاجة لاستمرار ثقة الناس في حكومتهم، والسلطان قابوس بن سعيد الذي افتتح مؤخرا واحدا من أكبر وأهم مساجد الخليج، يؤكد موحيا لندوة الفقه الإسلامي بأن التسامح الديني هو خط الدفاع الأول عن الهوية العمانية بغض النظر عن الطوائف والمذاهب والملل. كل صغيرة وكبيرة على أرض سلطنة عمان هي أهم لدى السلطان من أي مظهر من مظاهر السلطة والجاه والصولجان واستقبالات الملوك والأمراء، لذلك تجد في كل وقت أينما حللت أنشطة مدهشة، وكأن عمان أصبحت كلها مدرسة يتعلم فيها الشيخ والشاب والطفل والمرأة، بدءا من معرفة أهمية المياه إلى التوجيهات الصحية، ومن يتعلم كيفية البدء بمشروع صغير إلى حلقات وعي زراعي، ومن المحافظة على البيئة إلى تحسين الأداء الصناعي، وآلاف غيرها من فرص التعليم التي تتيحها مدرسة قابوس بن سعيد لكل أبناء الوطن الذي كان لثلاثين عاما مضت قفرا موحشا، وأطلال حضارة اندثرت، وبؤسا لا قبل لبشر به من أراد أن يشاهد الزمن الجميل فليجعل رحلة الصيف هذا العام إلى جنة الخليج الدافئ.. إلى محافظة ظفار.. أعني إلى خريف صلالة

هناك تعليق واحد:

ابوبكر المصري يقول...

احسنت يا طائر الشمال...فعلا عمان بلد جميل حتى اعندة النور هناك مدهونة بلون اخضر جميل تزينه مصابح جميله على عكس باقي الدولي التي يكون فيها عامود النور جامدا و متخشبا...اعيش بالامارات التي تتشابه كثيرا مع عمان و لكن اسمع من اصحابنا المصريين المقيمين هناك عن ميزات المجنمع العماني من الهدوء و الاحترام و احترام الجنسيات الاخرى و التواضع بالاضافة الى جمال طبيعتها