
أوسلو في 22 نوفمبر 2002
في لقاء ودي بأحد فنادق الكويت وفي حضور عدد قليل من الزملاء الصحفيين قال لي صديقي الذي كان مديرا لتحرير صحيفة خليجية، وتولى قبل هذا وبعده الإشراف على ثلاث صحف عربية: " ألا ترى أنك تقع في تناقض عندما تنتقد الأنظمة العربية في الوقت الذي تمتدح تجربة سلطنة عمان على الرغم من أنها لا تختلف عن أي نظام عربي آخر؟"
قلت له: أختلف معك تماما فالنظام في سلطنة عمان لا يمكن لأي مراقب عادل أن يساويه بأنظمة قمعية فاسدة وفوضوية تهدر أمال شعوبها في مشروعات فاشلة، وتلميع وجه قبيح للنظام، وفتح أقبية السجون والمعتقلات لأبناء الشعب، وتسليط المرشدين والمخبرين ورجال الأمن على المواطنين، وصناعة الخوف!
أما عن إهدار الأموال فسلطنة عمان نموذج للدولة العربية التي تحافظ السلطة فيها على أموال شعبها.
وحكيت له عن صديق الطفولة الذي انتقل من الإسكندرية واشتغل مراقبا في ديوان المحاسبة بمسقط، وقص عليّ من أنباء التوجيهات السلطانية السامية التي تشدد في الرقابة على أموال الشعب حتى أن صديقي كان يسافر مع وفد لجنة الرقابة لمراجعة حسابات ومصروفات البعثات الدبلوماسية، وكان أيضا يساهم في الرقابة على الإنفاقات المالية بالديوان السلطاني دون خوف أو فزع من أي مسئول في عمان.
سببت مقالاتنا في السنوات الخمس الماضية حرجا شديدا لأصدقائنا في سلطنة عمان التي لا علاقة للمسئولين فيها بطائر الشمال، ولكن القضية الأساسية هي كيفية إقناع أنظمة قمعية فاسدة في عالمنا العربي بأن هناك في مسقط شمسا تشرق على العرب من جديد، وحلما- في عالم عربي ملئ بالكوابيس- دون أن تتوجه أصابع الاتهام إلى إيحاءات برضي السلطة في عمان على انتقاداتنا الشديدة واللاذعة واللاسعة للآخرين!
ومع ذلك فإن حكمة الصمت تدفع سلطنة عمان لوضع كافة توجهاتها وخططها وطموحات قيادتها في خدمة الشعب وليس لتلميع مشروعات وهمية والخروج بإحصاءات مزيفة عن تصورات لا تمت للحقيقة بأي صلة.
كم تمنيت أن يتابع المثقفون والإعلاميون العرب ومعهم المسؤولون، الأخبار المحلية في سلطنة عمان والتي تبدو غير مهمة للذين يفهمون القيادة على أنها أزيز طائرة الزعيم، واستقبالات رئيس الوزراء، وحفلات على شرف الوفود، واتصالات ثنائية، ثم تعليمات وتوجيهات لرؤساء تحرير الصحف الكبرى بالكتابة عن جهود القائد العبقري في وضع حلول لمشاكل الدنيا والآخرة!
إنها فلسفة حكمة الصمت التي مضى عليها أكثر من ثلاثة عقود، فسلطنة عمان لا تلجأ للصراخ والفضائيات وبيع الوهم لأبناء الشعب، فليس هناك وقت لدى العمانيين لالتقاط الأنفاس، فنيف وثلاثون عاما من عمر النهضة لا تكفي لتحقيق طموحات السلطان قابوس بن سعيد.
لو كانت لدى سلطنة عمان الإمكانيات المالية والزراعية والبترولية والسكانية لدول أخرى(مثل الجزائر والعراق وليبيا والسودان) لوقف العالم كله احتراما وتقديرا وإعجابا لمعجزة كانت حتما ستتحقق، ومع ذلك فإن ما تم تحقيقه حتى الآن بالإمكانيات المتواضعة لدولة تبتلع فيها الطرق والمشروعات الصغيرة في مئات القرى والنجوع والولايات والأماكن النائية أكثر من نصف ميزانية الدولة لا يبتعد كثيرا عن المعجزة.
الحكم على التجربة العمانية بالفهم الساذج والمتخلف لكثير من النقاد والمثقفين والإعلاميين ظلم بين، وخطأ كبير، ورؤية قاصرة، فسلطنة عمان ليست هي الحزب الحاكم، أو مظاهرات المهووسين التي تلوح بقبضاتها في الهواء متوعدة الآخرين بالهزيمة، أو مؤتمرات دراسة فكر القائد، أو الخطط الخمسية في مزاد بيع الأحلام للجماهير المنكسرة، لكنها تتراوح بين حكمة الصمت في ترك الآخرين يشاهدون بأنفسهم، إن كانت لهم عيون ترى أو تريد أن ترى النصف المملوء من الكأس، وبين صمت الحكمة التي لا تلتفت ولا تنصت إلا لصوت مطالب شعوبها.
والمدخل الوحيد لعدالة الحكم على التجربة العمانية يمر عبر متابعة الأخبار المحلية، ففيها ومنها تشرق شمس من جديد، ومن يدري فربما تعود عقارب الساعة لتتجه الأنظار إلى دولة جديدة قديمة تستعيد مجلدا غابرا، وتجدد قوة حضارية وثقافية على أسس عصرية تناغم بين التراث والجديد في انسجام يجنب شعبها الأخطاء التي وقع فيها الآخرون في محاولات النهضة ببلادهم.
بكل الإعجاب والتقدير تمر العين على أحداث وأخبار ونشاطات في كل ولايات سلطنة عمان، ولو كانت زنجبار لا تزال تحت إمرة السلطان قابوس فربما نعم التنزانيون بخيرات أكثر أضعافا مضاعفة من الفتات التي يلقيها إليهم المبشرون.
استضافت سلطنة عمان نخبة متميزة من أطباء العالم للبحث في إمكانية
مكافحة أمراض البلهارسيا التي سيطرت عليها وزارة الصحة العمانية سيطرة كاملة رغم أن ما تم اكتشافه يعد حالات بسيطة مقارنة بدول أخرى أصبحت فيها البلهارسيا مرضا وبائيا تغمض السلطة والمؤسسات الصحية عيونها عنه.
الجسور الخمسة العلوية المزمع الانتهاء منها في شهر مارس القادم هي جسور جاهزة يتم تركيبها، وتناسب المواقع المختارة، وتأتي الأولوية لسرعة وأمان وانسيابية مرور المشاة، وقد جاءت وفقا لأحدث تصاميم ورسومات فنية خاصة لا تتعدى على جمال مسقط، ولا تشوه المنظر الحضاري للعاصمة.
الوعي بالصرف الصحي تقدر الدولة أهميته، وتنطلق بتوجيهات عليا فعاليات التوعية في كل مناطق السلطنة، فالسلطة في عمان تعرف جيدا الفارق بين توعية على استحياء لا تفيد المواطن، وبين أخرى منظمة تنطلق في كل شبر من الأرض الواسعة دون تمييز بين المدن الكبرى وبين القرى والأماكن النائية. غريب أمر هذا البلد، أينما وليت وجهك تجد أشياء لا يمكن أن تكترث لها مؤسسات عربية أو وزارات أو حتى سلطة عليا في عالمنا المسكين، فهنا في سلطنة عمان يتم بناء المستقبل للمواطن، وهناك في الوطن العربي يتم تأمين المستقبل للزعيم أو ابنه أو شقيقه أو جنرالات الجيش!
حتى حلقات العمل حول أمراض القلب تجدها في عمان، ثم تلتفت يمينا ويسارا فيدهشك أن تقرأ عن اختتام دورات مراقبة محلات تصفيف الشعر والتجميل حيث ينطلق بعدها موظفون يعملون في مجال التفتيش الصحي والتوعية والإرشاد!
والدولة دائما حاضرة في سلطنة عمان، ولا تترك المواطنين في أيدي سماسرة أو تجار السفر و الإقامات والحج والعمرة ومئات غيرها من حاجيات المواطن.
لذا فإن مقاولي الحجاج للموسم القادم بدأوا في تعبئة الاستمارات وفقا لشروط صارمة حددتها الدولة. فإذا أردت أن تزداد دهشتك فاقرأ عن ندوات صحية للتعريف بالبرنامج الوطني للمباعدة بين الولادات! بين السلطة في عمان وبين البيئة غرام شديد يجعل الحفاظ على البيئة واجبا أخلاقيا صادرا عن قناعة حتى أن التوجيهات العليا تأتي للسنة الثانية لمد العام البيئي الأول.
وآلاف أخرى من الأخبار المحلية التي لا يخطئ من خلالها أي متابع في معرفة المشهد العماني بعد عقد أو اثنين، فالعرب بخير على رغم نكباتهم، ومن لا يصدق فليتابع ما يحدث في سلطنة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق